تداعيات وقف إطلاق النار بين الكيان الإسرائيلي ولبنان على مسار الحرب على غزة

مقدمة:
منذ السابع من أكتوبر 2023، شهدت المنطقة تصاعدًا حادًا في وتيرة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بعد عدوان الاحتلال الإسرائيلي واسع النطاق الذي شنه على قطاع غزة، بعد تنفيذ المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى"، هذه التطورات جرت بالتوازي مع تصاعد التوترات على جبهة الاحتلال الشمالية مع لبنان، حيث دخل "حزب الله" كطرف غير مباشر في الصراع عبر دعمه للمقاومة الفلسطينية وتصعيده للعمليات على الحدود، وقد زاد هذا التوتر من احتمالية اتساع رقعة المواجهة لتشمل عدة جبهات، لاسيما بعد توسيع جيش الاحتلال الإسرائيلي حربه على لبنان، مما دفع الأطراف المعنية إلى البحث عن حلول لاحتواء التصعيد.
في هذا السياق، جاء الاتفاق الأخير بين الكيان الإسرائيلي ولبنان كخطوة تهدف إلى تهدئة التوتر على الجبهة الشمالية، ومع إعلان وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر 2024 بات من الضروري تحليل مدى تأثير هذا التطور على مسار الحرب على غزة، وكيف يمكن أن يعيد تشكيل استراتيجية الكيان الإسرائيلي تجاه القطاع، هل سيمثل اتفاق وقف إطلاق النار فرصة لـلكيان الإسرائيلي تركيز جهوده العسكرية على غزة، أم أنها ستكون مجرد توقف مؤقت للتصعيد؟ وما هي الأبعاد الإقليمية والدولية لهذا الاتفاق في ظل التحولات الجارية في المشهد السياسي والعسكري؟
يسعى هذا التقدير إلى استعراض المعطيات الراهنة واستشراف السيناريوهات المستقبلية، مع التركيز على تأثير اتفاق وقف إطلاق النار على توازن القوى في المنطقة والتوجهات الإسرائيلية المقبلة.
تفاصيل الاتفاق:
وبحسب ما نشرت الحكومة اللبنانية ومصادر متعددة فقد تضمن الاتفاق التزام "حزب الله" وجميع القوى المسلحة الأخرى في الأراضي اللبنانية بعدم تنفيذ أي عمليات هجومية ضد (إسرائيل)، التي ستلتزم بالمقابل بعدم تنفيذ أي عمليات عسكرية هجومية ضد أهداف في لبنان سواء على الأرض أو في الجو أو البحر.
وأشار نص الاتفاق الذي يتكون من 6 صفحات و13 فقرة، إلى أن "الولايات المتحدة وفرنسا تدركان أن لبنان و(إسرائيل) يسعيان إلى إنهاء التصعيد الحالي للأعمال العدائية عبر الخط الأزرق بشكل مستدام، وأن كلا منهما مستعد لاتخاذ خطوات لتهيئة الظروف التي تفضي إلى حل دائم وشامل".
ووفقاً للاتفاق، تعكس هذه التفاهمات "الخطوات التي يلتزم بها كل من (إسرائيل) ولبنان من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 بالكامل، مع الاعتراف بأن هذا القرار ينص أيضاً على التنفيذ الكامل للقرارات السابقة لمجلس الأمن، بما في ذلك نزع سلاح جميع المجموعات المسلحة في لبنان، بحيث تقتصر القوى المخولة بحمل السلاح في لبنان على القوات المسلحة اللبنانية، وقوى الأمن الداخلي.
وعند بدء وقف الأعمال العدائية، ستسحب (إسرائيل) قواتها بشكل تدريجي إلى جنوب الخط الأزرق، وفي الوقت ذاته، ستقوم القوات المسلحة اللبنانية بنشر قواتها في المواقع المحددة في منطقة جنوب الليطاني.
هل يمثل الاتفاق نهاية للتصعيد أم مجرد هدنة مؤقتة؟
من المرجح أن يمثل الاتفاق بين الكيان الإسرائيلي ولبنان هدنة مؤقتة أكثر من كونه نهاية نهائية للتصعيد، وخلال مقابلة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع القناة ١٤ العبرية قال نصا:" لم أقل إن ما يجري هو وقف للحرب بل وقف لإطلاق النار وقد يكون قصيرا" وهنناك عدة أسباب تدعم هذا التوقع:
- تاريخ الصراع والتوتر المستمر: الصراعات السابقة بين الكيان الإسرائيلي و"حزب الله" تشير إلى أن التوترات عادة ما تتصاعد وتهدأ بشكل دوري. الاتفاقات والهدن السابقة كانت غالبًا مؤقتة، حيث تعود التوترات إلى السطح عند تغير الأوضاع الإقليمية أو الميدانية.
- عدم معالجة القضايا الأساسية: يبدو أن الاتفاق يركز بشكل أساسي على التهدئة الفورية لتجنب تصعيد شامل على الجبهة الشمالية، لكنه لا يعالج القضايا الجوهرية بين الأطراف المعنية، هذا يعني أن إمكانية العودة للتصعيد تظل قائمة إذا لم يتم التوصل إلى حلول مستدامة حول القضايا الأساسية.
- دور الفاعلين الإقليميين: هناك أطراف إقليمية ودولية قد تسعى للتأثير على مسار الأحداث. في حال حدوث تغيرات جيوسياسية إقليمية، مثل تبدل مواقف دولية أو تحولات في التحالفات، قد يتأثر استقرار وقف إطلاق النار بشكل مباشر، وقد تكون إيران أبرز الأمثلة لذلك، فلها تشابكات وترابطات مختلفة في الإقليم، وتسعى للتأثير بشكل أو آخر في الأحداث.
بناءً على هذه العوامل، من المحتمل أن الاتفاق يسعى لتحقيق تهدئة محدودة ومؤقتة، تتيح للأطراف إعادة ترتيب أولوياتهم والاستعداد للمراحل القادمة من الصراع.
الانعكاسات الإقليمية للاتفاق:
كيف يمكن أن يؤثر الاتفاق على العلاقات الإقليمية والدولية؟
الاتفاق بين الكيان الإسرائيلي ولبنان من المحتمل أن يكون له تأثيرات متعددة على العلاقات الإقليمية والدولية، تتفاوت بين التهدئة وإعادة التوجيه للسياسات والتحالفات، فيما يلي بعض التأثيرات المحتملة:
- تحقيق تهدئة إقليمية مؤقتة
إذا نجح الاتفاق في الحد من التوتر على الجبهة الشمالية، قد يوفر ذلك فترة استقرار مؤقتة في المنطقة، مما يمكن أن يسهم في تقليل المخاوف من تصعيد شامل. هذا الاستقرار المؤقت قد يشجع بعض الدول الإقليمية، مثل مصر وقطر، وتركيا كفاعل جديد على لعب دور أكبر في الوساطة لتهدئة الأوضاع في غزة، وقد يوفر أيضًا لـلكيان الإسرائيلي مساحة للمناورة السياسية والدبلوماسية.
- حفاظ إيران على نفوذها في المنطقة
"حزب الله" مدعوم بشكل رئيسي من إيران، وبالتالي فإن أي اتفاق يتضمن الحزب -إذا حافظ على حضوره وقوته في الساحة اللبنانية- يُعد إنجازا سياسيًا نسبيًا لطهران، مما يمنحها فرصة للحفاظ على نفوذها في المنطقة. هذا قد يدفع بعض الدول الإقليمية، مثل السعودية والإمارات، إلى إعادة تقييم مواقفها ودعمها للتحالفات المناهضة لإيران.
- تأثير الاتفاق على السياسة الأمريكية في المنطقة :
- من المحتمل أن يكون للاتفاق تأثير على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث تسعى واشنطن بشكل عام إلى استقرار المنطقة والحد من التصعيد، إذا استمر وقف إطلاق النار لفترة معقولة، قد يعتبر ذلك نجاحًا دبلوماسيًا للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وقد يتيح لواشنطن فرصة لتركيز جهودها على ملفات أخرى في المنطقة، مثل الملف النووي الإيراني.
- ضغط دولي متزايد على أطراف الحرب على غزة
نجاح الكيان الإسرائيلي في التفاوض مع "حزب الله" قد يدفع المجتمع الدولي للضغط عليه لفتح قنوات دبلوماسية أكثر فاعلية مع الفلسطينيين، خاصة إذا أسهم الاتفاق في تهدئة مؤقتة للوضع الميداني في غزة. قد يتزايد الدعم الدولي لدعوات التهدئة الشاملة أو حتى لمفاوضات جديدة إذا استقرت الأوضاع في الجبهة الشمالية.
- إعادة توجيه التحالفات الإقليمية
إذا تم الحفاظ على وقف إطلاق النار لفترة طويلة، قد يؤدي ذلك إلى إعادة تقييم التحالفات الإقليمية، حيث ستسعى بعض الدول، مثل تركيا، إلى الاستفادة من الوضع الجديد لتعزيز دورها كوسيط إقليمي أو كقوة مؤثرة في الصراعات الإقليمية.
- تحفيز مفاوضات أوسع
قد يكون الاتفاق مدخلاً لمفاوضات أوسع تشمل قطاع غزة إذا نجح في تهدئة الأوضاع لفترة طويلة، مما قد يعيد الزخم لفكرة الحلول الدبلوماسية متعددة الأطراف التي تتضمن الفاعلين الإقليميين والدوليين. وقد يساعد هذا في تحقيق بعض التفاهمات حول قضايا أوسع تتجاوز حدود الصراع المباشر بين الكيان الإسرائيلي ولبنان.
- تأثير الاتفاق على العلاقات بين الكيان الإسرائيلي ودول الخليج
تحقيق اتفاق مع لبنان، الذي يتواجد فيه "حزب الله" كقوة رئيسية، قد يُظهر لـلكيان الإسرائيلي قدرته على التفاوض والتهدئة حتى مع أطراف معادية. هذا قد يعزز صورته كشريك أمني لدول الخليج التي تشاركه القلق من تأثيرات إيران الإقليمية. من المحتمل أن يدفع ذلك بعض دول الخليج إلى توسيع التعاون الأمني والاستخباراتي مع الكيان الإسرائيلي، وصولا إلى اتفاقات تطبيع جديدة مع دول مثل السعودية، خاصة إذا تم الحفاظ على وقف إطلاق النار لفترة طويلة.
وعلى أية حال فإن النتائج النهائية للاتفاق ستعتمد على مدى استمراريته وتأثيره على الأرض، وكذلك على استجابة الأطراف المختلفة له. في حال نجاحه، قد يسهم في تغيير ديناميكيات المنطقة على المدى القصير إلى المتوسط، لكنه لا يبدو مرجحًا أن يؤدي إلى تغييرات جذرية في ظل الأوضاع الحالية.
تداعيات الاتفاق على مسار الحرب الإسرائيلية على غزة:
في ظل الاتفاق بين الكيان الإسرائيلي ولبنان، هناك عدة سيناريوهات محتملة لتطور الحرب على غزة. هذه السيناريوهات تعتمد على استجابة أطراف الصراع وتفاعلاتهم مع الأوضاع المتغيرة على الأرض. فيما يلي السيناريوهات المتوقعة:
- تصعيد الكيان الإسرائيلي حربه على غزة
مع تحقيق وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية، قد يسعى الكيان الإسرائيلي إلى تصعيد حربه على غزة بهدف إضعاف المقاومة الفلسطينية وتحقيق أهداف استراتيجية، في هذا السيناريو:
- زيادة الغارات الجوية: قد يلجأ الكيان الإسرائيلي إلى توسيع غاراته الجوية ضد قطاع غزة، مستفيدا من حرية الحركة التي يوفره وقف إطلاق النار على الحدود الشمالية.
- تصعيد بري محدود: يمكن أن يقوم الكيان بعمليات برية محدودة داخل قطاع غزة تحت ذريعة تدمير الأنفاق أو القدرات الصاروخية للفصائل الفلسطينية ، دون الانخراط في عملية برية واسعة النطاق.
- تضييق الخناق على القطاع: قد يشد الكيان الإسرائيلي الحصار على غزة لزيادة الضغط على حركة حماس والحد من قدراتها على التعافي.
- محاولات لتغيير الأساليب القتالية لدى المقاومة: من جهة حركة حماس والفصائل الفلسطينية يمكنها أن تسعى إلى تغيير تكتيكاتها القتالية ، لاسيما تلك المتعلقة بتطوير أساليب حرب العصابات، لتتناسب مع حرب استنزاف طويلة ضد جيش الاحتلال.
٢. تهدئة مؤقتة وتعزيز الدبلوماسية
إذا استمر وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية لفترة طويلة، فقد يسعى المجتمع الدولي إلى استغلال هذه الفرصة للدفع نحو تهدئة مماثلة في غزة. في هذا السيناريو:
- اتفاق تهدئة مؤقت في غزة: قد يتم التوصل إلى هدنة إنسانية مؤقتة في غزة بوساطة دولية، تهدف إلى وقف التصعيد العسكري وإدخال مساعدات إنسانية، مما قد يوفر فترة من الهدوء النسبي.
- جهود دبلوماسية لوساطة: قد تلعب دول مثل مصر وقطر وربما تركيا أدوارًا رئيسية في تسهيل التفاوض بين الكيان الإسرائيلي وحماس، مع التركيز على تحقيق استقرار طويل الأمد. هذه الجهود قد تشمل مبادرات لتخفيف الحصار مقابل وقف إطلاق النار.
٣. تصعيد شامل وواسع النطاق
هناك دائمًا خطر أن تؤدي التوترات في غزة إلى تصعيد شامل وواسع النطاق، خاصة إذا انهار اتفاق وقف إطلاق الن في لبنان، وفشلت الجهود الدولية في احتواء الوضع، في هذا السيناريو:
- عملية برية كبيرة في غزة: قد يتخذ الكيان قرارًا بالقيام بعملية برية واسعة النطاق في محاولة لإضعاف حماس وبقية الفصائل الفلسطينية بشكل جذري، مما قد يؤدي إلى تصعيد كبير ومواجهات دامية.
- اتساع نطاق مشاركة أطراف إقليمية: إذا تصاعد الوضع بشكل حاد، قد يتسع نطاق مشاركة أطراف إقليمية بشكل غير مباشر لدعم الفصائل الفلسطينية، مثل جماعة أنصار الله في اليمن، و"المقاومة الإسلامية" في العراق، مما يزيد من تعقيد المشهد ويعطيه بُعدًا إقليميًا أوسع.
- تصاعد الضغط الدولي: في حال تصعيد العدوان الإسرائيلي غزة، قد يتزايد الضغط الدولي على الكيان الإسرائيلي لوقف العمليات العسكرية والعودة إلى طاولة المفاوضات، مع تزايد الدعوات لحل دبلوماسي شامل.
٤. هدنة طويلة الأمد واتفاق سياسي مؤقت
إذا توافرت الظروف المناسبة، قد تسعى الأطراف إلى الوصول إلى هدنة طويلة الأمد تشمل اتفاقات سياسية مؤقتة، في هذا السيناريو:
- تخفيف الحصار: يمكن أن يتم التوصل إلى اتفاق يشمل تخفيف الحصار على غزة مقابل وقف إطلاق النار لفترة طويلة، مع ضمانات دولية لالتزام الأطراف ببنود الاتفاق.
- إجراءات بناء ثقة: قد تشمل الهدنة بعض إجراءات بناء الثقة، مثل إطلاق سراح أسرى أو إعادة بناء البنية التحتية في غزة، مما قد يسهم في تحسين الوضع الإنساني وتخفيف التوترات.
مناقشة السيناريوهات
السيناريوهات تتراوح بين تصعيد حاد وواسع النطاق إلى تهدئة مؤقتة قد تفتح الباب أمام حلولا دبلوماسية. ستعتمد نتائج الحرب على غزة إلى حد كبير على التطورات على الجبهة الشمالية ومدى نجاح أو فشل الاتفاق بين الكيان الإسرائيلي ولبنان في تحقيق استقرار حقيقي، وكذلك على توازنات القوى الإقليمية والدولية وقدرتها على التأثير في أطراف الصراع.
الخلاصة:
يمثل الاتفاق بين الكيان الإسرائيلي ولبنان محطة محورية قد تُعيد رسم أولوياته الاستراتيجية، مما يفتح المجال أمام تصعيد محتمل أو تهدئة مؤقتة في غزة.
في هذا السياق، تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا، إذ تسعى إدارة الرئيس بايدن إلى تكرار نجاحها في وقف التصعيد على الجبهة اللبنانية في غزة، ولكن تواجه بتعنت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يرفض على ما يبدو التوصل إلى أي اتفاق قبل تسلم الرئيس دونالد ترامب الرئاسة مجددًا، نظرًا لتفضيله دعم إدارة ترامب غير المشروط.
تفرغ الكيان الإسرائيلي من جبهة الشمال قد يمنحه فرصة لزيادة الضغط على القطاع، لكن في المقابل، قد تستفيد المقاومة الفلسطينية من استقرار الوضع الإقليمي لتعزيز قدراتها وتحسين تحالفاتها.
وستشهد المرحلة المقبلة مزيجًا من الضغوط العسكرية والدبلوماسية، ما يتطلب استجابة سياسية وإعلامية متماسكة لتثبيت مكاسب المقاومة ومواجهة التحديات المقبلة.
التوصيات:
١. تكثيف الجهود الدبلوماسية مع الحلفاء الإقليميين لضمان استمرار الدعم السياسي والإنساني.
٢. الاستفادة من الحراك الدولي للضغط باتجاه تهدئة متوازنة.
٣. تعزيز الخطاب الإعلامي الذي يبرز معاناة المدنيين في غزة لاستقطاب التعاطف الدولي.
٤. تسليط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية لتأطير الحرب وآثارها في سياق قانوني وإنساني.
٥. التنسيق مع وسائل الإعلام الإقليمية والدولية لتوحيد الرسائل وضمان الوصول إلى جمهور أوسع.